الأحد، 16 أغسطس 2009

السغب

جريدة تطوان
بقلم : مصطفى منيغ
أغدف الليل فسكن لداره يتفحص أحواله الشخصية بعيدا عن متابعات مملة ترميه لزاوية الشك في ارتباطه مع أناس ساقوه بالنفاق ليتوسط النفق، لا يسعفه فيه ضوء نهار ولا استدراك شفق ، فينجو حينما الوعي لرأسه طرق ، يبعده عن صحبة لا شكل لها ولا مذاق ، غير استغفال حاد الذكاء لآخر مع الجشع غرق . سكن إلى داره بعدما عرج على باب بيتها ليتيقن إن كان الفنار المرفوع فوقها مضاءا يشهر تواجدها بالداخل أم غيابها إن كان عكس ذلك، وبالرغم من رؤية الحالة الأولى فضل مواصلة السبيل كأنه مدفوع لاتخاذ نفس القرار من طرف قوة كامنة فيه لا يدري مصدرا لها حقا ، إذ كيف لمخلوق ، في مثل الليلة القارصة الجو ، المسموع من سفح الجبل المجاور لقرية هو ساكنها كأسر قليلة غيره ، عواء ذئاب تعلن عن حنينها لافتراس صيد يغنيها عن السغب، لتميز صوتها لنغمة أخرى إن كانت مليئة البطن ، وفي توقيت ليس بالمتأخر كهذا ، يتخطى مقاما تدفئه ابتسامات إنسانة صافية الجمال مثل " لمياء"، أجل" لمياء" التي ما يكاد ينطق بها لسانه حتى يتوقف فيترجل من السيارة التي قادها بشرود ملحوظ ،غير مكثرة بقطرات المطر القوي النازلة بغزارة على سترته البنية اللون،المستورد قماشها من أرقى متجر في عاصمة الضباب،المهيأة على مقاسه تماما ببراعة أشهر خياط في الجهة، المعطرة بأغلى أنواع العطر الباريسي النسب، تتهاوى أيضا على خذيه وهو يحملق في نجمة تتوسط العلياء في تلك الليلة الملبدة بالغيوم تتصارع لتظهر لمن تحتها يراقب ويتعجب دون إدراك كنه الظاهرة الفريدة ، لم يشعر بالبرد بل راحل بوجدانه كي ينسى ، ولما لا حتى الإحساس كي لا يحس ، في هروب مكشوف من أمر لا يريد أن يصبح عبدا ذليلا مكسرا حياله ، ربما عاش للحظات صحوة ضمير بعد كبوة لم يتمكن من تخليص نفسه من رغبتها الحيوانية ساعتئذ وقد حصلت دون وعي يقيه أبعادها السلبية بعد ذلك ، أو ذاهب لبعيد ثائرا عن حياة الضجر لينزوي في موقع مختلف لمراجعة ما يقع لكيانه عساه يعثر عن السبب والحل معا . المال الذي أصبح متمتعا بوفرته بعدما جرب الإملاق والمبيت في العراء بلا غطاء في أحقر زقاق، ها هو الآن بإحساس كان عليه من زمان يقارن نفسه بالنجمة المحملق فيها يعانيان هواجس صراعها مع الظهور لمن يراقب تحتها وصراعه مع نسيان ما جرى . عاود الارتفاع ببصره لنفس البقعة ليتيقن أن بصيص النور اختفى كليا بسبب تعاظم سواد ظلمة رفيقة أمطار اشتد وقع هطولها على جسمه فلا يجد غير سيارته يحتمي بركوبها لينطلق بعد تشغيل محركها صوب الخلف ليقع فجأة في حفرة سبق أن رآها فتجنبها ليتخطاها قبل الوقوف حيث وقف كما سبق الذكر. الحفرة كلما مر الوقت امتلأت بمياه المطر المنحدر نحوها بقوة وبسرعة مخيفة . دفع كل الأبواب الأربعة عشاه ينفذ من إحداها للخارج إنقاذا لنفسه من هلاك محقق، لكن دون جذوى ،حجم الحفرة لم يكن ليسع إلا حجم السيارة بالتمام والكمال لسوء الصدفة ، الشيء الذي لا يترك لأبوابها أي فجوة لتفتح ، حتى النوافذ الزجاجية إن فتحت يصطدم المحاول الخروج منها بجدار طيني سميك لا يسمح إلا بمضاعفة تسرب المياه المخلوطة بالأتربة صوب الداخل وفي ذلك إسراع بالقضاء على حياة المسكين الذي عجز كلية عن التخلص من هذه الورطة القاتلة ، لم يبق له إلا تطبيق فكرة واحدة لا غير تقضي بفتح فجوة في سقف السيارة من الداخل ، وهذا من سابع المستحيلات ما دام الأمر يحتاج إلى معدات وعضلات وكلاهما مفقود ، إذن ماذا يفعل ؟ لا شيء ، لكن حب البقاء على قيد الحياة اقوي بكثير من اليأس ، في لحظة استرجع الرجل كل مقومات التفكير وبهدوء طرقت لذهنه فكرة وجيهة أن يشغل المذياع ويرفع من طاقة صوته إلى الحد الأقصى ، ربما يسمع أحد سكان القرية المنثورة منازلهم على سفح الجبل القريب نسبيا من الحفرة الملقى بها وسيارته داخلها بلا حراك ، صدى ما ينساب من المذياع فيهرع لنجدته . من يدري ربما تكون الفكرة مفتاح نجاته ، وهذا ما حصل بالفعل ، خرجت " لمياء" لتتيقن من شرفتها عن مصدر الصوت المزعج الطارق أذنيها في هذه الليلة وكل ما حولها كان من برهة ساكنا هادئا . تبين لها أن نورا باهتا ينبعث من حفرة كادت نفسها الوقوع فيها ذات يوم ، وتيقنت أن الصوت مصدره مذياع استعمل الواقع فيها فكرة تشغيله لاستصدار ضوضاء يجلب من يساعد على الإنقاذ . أخذت فنارا محشوا ببطارية كمصدر طاقته المحولة لنور يفي بالحاجة في هذه الليلة الحالكة الممطرة ، وارتدت معطفا واقيا من البلل ، وحذاءا جلديا ملائما لنفس الأجواء وشقت طريقها نحو المكان المحدد غير البعيد من مسكنها ، ولما رأت السيارة شبه الغارقة في الحفرة استفسرت عمن بداخلها فسمعت الرد وقد جاءها واضحا بعدما اسكت صاحبه المذياع طالبا الاتصال الفوري برجال الوقاية المدنية للحضور بمعداتهم المخصصة لمثل الكوارث حتى يتمكنوا من إنقاذه . وبدل أن تجيبه بالقبول قهقهت ضاحكة في تشفي وهي تخاطبه :ـــ هو أنت، وقعت بين يدي أيها الشيطان اللئيم، سأتمكن من القضاء عليك حتى أحرمك العودة إلى صنيعك أبدا أيها المجرم ، كم تمنيت أن تكون نهايتك بواسطتي لأستريح من ألاعيبك الدنيئة الحقيرة ، والآن وقد أوقعك القدر في طريقي وأنت مكبل بجدران أربعة لحفرة أوجدتها الطبيعة على مقاس سيارتك لتهوى في مصيدة تدفن فيها حيا أيها الوغد المتوحش . هل تذكرت كم استعطفتك وبكل ما استطعت النطق به من كلمات تلين لسماعها أقسى القلوب و أعتاها فضربت بها وبي غرض الحائط ونفذت همجيتك الحيوانية علي أنا الأنثى الضعيفة لا حول لها ولا قوة ، ويا ليتك تراجعت واعتذرت وقمت بإصلاح ما ضاع بسببك ، أتسمعني أيها المجرم.؟يجيبها بصوت كسير : ـــ حقا ما تقولين يا "لمياء" لم استجب ساعتها لتوسلاتك ، تصرفت معك تصرفا لا يليق برجل يرى دموع امرأة تفجرها الرغبة في الخلاص مدافعة عن شرفها . لكن ، هي غلطة وذهبت لحال سبيلها . ليس الأمر منتهيا كما تتخيلين ، هي لحظة أخلص فيها نفسي مما أنا فيه وأصلح ذات البين بيننا .بدل أن تجيبه أسرعت عائدة إلى مسكنها لإحضار معول تستعين به لتحويل المياه المحصورة في بركة مجاورة للسيلان في الحفرة حتى يتقوى ما يتجمع فيها ويخنق ما تبقى من أنفاس المحصور داخل السيارة الذي أحس بتزايد الخطر على حياته فتحرك لإحكام غلق النوافذ لكنه اكتشف أن إحداها مكسر زجاجها مما سمح بتدفق المياه بكميات أكبر ، وهكذا إلى أن نفذ آخر حيز ليستنشق آخر جرعة من هواء الحياة فيكف عن الصراخ وإلى الأبد . تعود "لمياء" إلى بيتها فرحة بما أنجزته لكن ما هي سوى خطوات حتى تجد نفسها محاطة بعدد من ذئاب جائعة لم تترك لها أدنى فرصة للقرار بل أجهشت على جسدها بأنياب حادة لا مجال أمامها لاستعطاف أي كان، إنما تمزيق للأوصال وافتراس ما يلبي حاجتها للطعام هو الهدف الذي قادها لنفس المكان في نفس التوقيت لتتلذذ بازدراد لحم " لمياء"وطحن عظامها بنهم زاده الجوع شراسة لا تقاوم. وهكذا أصبحت الحسناء مجرد بقايا أشلاء وسائل أحمر وجهته السيول للحفرة المعلومة
مصطفى منيغ

ليست هناك تعليقات: